فصل: مسير عبد الملك إلى العراق ومقتل مصعب.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.خلاف عمر بن سعيد الأشرف ومقتله.

كان عبد الملك بعد رجوعه من قنسرين اقام بدمشق زمانا ثم سار لقتال زخر بن الحرث الكلابي بقرقيسيا واستخلف على دمشق عبد الرحمن بن أمر الحكم الثفقي ابن اخته وسار معه عمر بن سعيد فلما بلغ بطنان انتقض عمر وأسرى ليلا إلى دمشق وهرب ابن أم الحكم عنها فدخلها عمر وهدم داره واجتمع إليه الناس فخطبهم ووعدهم وجاء عبد الملك على أثره فحاصره بدمشق ووقع بينهما القتال أياما ثم اصطلحا وكتب بينهما كتابا وأمنه عبد الملك فخرج إليه عمر ودخل عبد الملك دمشق فأقام أربعة أيام ثم بعث إلى عمر ليأتيه فقال له عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو صهره وكان عنده: لا تأتيه فإني أخشى عليك منه فقال: والله لو كنت نائما ما أيقظني! ووعد الرسول بالرواح إليه ثم أتى بالعشي ولبس درعه تحت القباء ومضى في مائة من مواليه وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان وحسان بن نجد الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأذن لعمر فدخل ولم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغوا قاعة الدار وما معه إلا غلام واحد ونظر إلى عبد الملك والجماعة حوله فأحس بالشر وقال للغلام: إنطلق إلى أخي يحيى وقل له يأتيني فلم يفهم عنه وأعاد عليه فيجيبه الغلام لبيك وهو لا يفهم فقال له: أغرب عني ثم أذن عبد الملك لحسان وقبيصة فلقيا عمر ودخل فأجلسه معه على السرير وحادثه زمنا ثم أمر بنزع السيف عنه فأنكر ذلك عمر وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال له عبد الملك أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك؟ فأخذ عنه السيف؟ ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية إنك حين خلعتني حلفت بيمين إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة فقال بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم! وما عسيت أن أصنع بأبي أمية؟ فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين يا أبا أمية فقال عمر: قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين فأخرج من تحته فراشه جامعة وأمر غلاما فجمعه فيها وسأله أن لا يخرجه على رؤوس الناس فقال أمكرا عند الموت؟ ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ثم سأل الإبقاء فقال عبد الملك: والله لو علمت أنك تبقى إن أبقيت عليك وتصلح قريش لأبقيتك ولكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد فشتمه عمر وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عبد العزيز بقتله فلما قام إليه بالسيف ذكره الرحم فأمسك عنه وجلس ورجع عبد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب فغلظ لعبد العزيز ثم تناول عمر فذبحه بيده وقيل أمر غلامه بن الزغير فقتله وفقد الناس عمر مع عبد الملك حين خرج إلى الصلاة فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيده وكانوا ألفا ومعه حميد بن الحرث وحريث وزهير بن الأبرد فهتفوا باسمه ثم كسروا باب المقصورة وضربوا بالسيوف وخرج الوليد بن عبد الملك واقتتلوا ساعة ثم خرج عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفي بالرأس فألقاه إلى الناس وألقى إليهم عبد العزيز بن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا ثم خرج عبد الملك إلى الناس وسأل عن الوليد فأخبر بجراحته وأتى بيحيى بن سعيد وأخيه عنبسة فحبسهما وحبس بني عمر بن سعيد ثم أخرجهم جميعا وألحقهم بمصعب حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم وكان بنو عمر أربعة أمية وسعد وإسماعيل ومحمد ولما حضروا عنده قال: أنتم أهل بيت ترون لكم على جميع قومكم فضلا لن يجعله الله لكم والذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا بل كان قديما في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية فقال سعيد: يا أمير المؤمنين تعد علينا أمرا كان في الجاهلية والإسلام قد هدم ذلك ووعد جنة وحذر نارا وأما عمر فهو ابن عمك وقد وصل إلى الله وأنت أعلم بما صنعت وإن أحد ثنا به فبطن الأرض خير لنا من ظهرها فرق لهم عبد الملك وقال: أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله واخترت قتله على قتلتي وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأحسن حالتهم وقيل إن عمر إنما كان خلفه وقتله حين سار عبد الملك لقتال مصعب طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه فلم يجبه إلى ذلك فرجع إلى دمشق فعصى وامتنع بها وكان قتله سنة تسعة وستين.

.مسير عبد الملك إلى العراق ومقتل مصعب.

ولما صفا الشام لعبد الملك اعتزم على غزو العراق وأتته الكتب من أشرافهم يدعونه فاستمهله أصحابه فأبى وسار نحو العراق وبلغ مصعبا سيره فأرسل إلى المهلب بن أبي صفرة وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره وقد كان عزل عمر بن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج وولى مكانه المهلب وذلك حين استخلف على الكوفة وجاء خالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد على البصرة مختفيا وأعيد لعبد الملك ابن مسمع في بكر بن وائل والأزد وأمد عبد الملك بعبيد الله ابن زياد بن ضبيان وحاز بهم عمر بن عبيد الله بن معمر ثم صالحهم على أن يخرجوا خالدا فأخرجوه وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالدا فوجده قد خرج فسخط على ابن معمر وسب أصحابه وضربهم وهدم دورهم وحلقهم وهدم دار مالك بن مسمع واستباحها وعزل ابن معمر عن فارس وولى المهلب وخرج إلى الكوفة فلم يزل بها حتى سار للقاء عبد الملك وكان معه الأحنف فتوفي بالكوفة ولما بعث عن المهلب ليسير معه أهل البصرة إلا أن يكون المهلب على قتال الخوارج رده وقال له المهلب إن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا يتعدى ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فجعله في مقدمته وسار حتى عسكر في معسكره وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد ابن مروان وخالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد فنزلوا قريبا من قرقيسيا وحضر زفر ابن الحرث الكلابي ثم صالحه وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر وسار معه فنزل بمسكن قريبا من مسكن مصعب وفر الهذيل بن زفر فلحق بمصعب وكتب عبد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم بشرط أصفهان وأتى ابن الأشتر بكتاب مختوما إلى مصعب فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق فأخبره مصعب بما فيه وقال مثل وقال مثل هذا ألا يرغب عنه فقال إبراهيم ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة ولقد كتب عبد الملك لأصحابك كلهم مثل هذا فأطعن واقتلهم أو احسبهم في أضيق محبس فأبى عليه مصعب وأضمر أهل العراق الغدر بمصعب وعذلهم قيس بن الهيثم منهم في طاعة أهل الشام فأعرضوا عنه ولما تدانى العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب بقول فقال: نجعل الأمر شورى فقال مصعب: ليس بيننا إلا السيف فقدم عبد الملك أخاه محمدا وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر وأمده بالجيش فأزال محمدا عن موقفه وأمده عبد الملك بعبيد الله بن يزيد فاشتد القتال وقتل من أصحاب مصعب بن عمر الباهلي والد قتيبة وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء فساء ذلك إبراهيم ونكره وقال أوصيته لا يمدني بعتاب وأمثاله وكان قد بايع لعبد الملك فجر الهزيمة على إبراهيم وقتله وحمل رأسه إلى عبد الملك.
وتقدم أهل الشام فقاتل مصعب ودعا رؤس العراق إلى القتال فاعتذروا وتثاقلوا فدنا محمد بن مروان بن مصعب وناداه بالأمان وأشعره بأهل العراق فأعرض عنه فنادى ابنه عيسى بن مصعب فأذن له أبوه في لقائه فجاءه وبذل له الأمان وأخبر أباه فقال: أتظنهم يعرفون لك ذلك؟ فإن أحببت فافعل قال: لا يتحدث نساء قريش أني رغبت بنفسي عنك قال: فاذهب إلى عمك بمكة فأخبره بصنيع أهل العراق ودعني فإني مقتول فقال: لا أخبر قريشا عنك أبدا ولكن إلحق أنت بالبصرة فإنهم على الطاعة أو بأمير المؤمنين بمكة فقال: لا يتحدث قريش أني فررت ثم قال لعيسى: تقدم يا بني أحتسبك فتقدم في ناس فقتل وقتلوا وألح عبد الملك في قبول أمانه فأبى ودخل سرادقه فتحفظ ورمى السرادق وخرج فقاتل ودعاه عبيد الله بن زياد بن ضبيان فشتمه وحمل عليه وضربه فجرحه وخذل أهل العراق مصعبا حتى بقي في سبعة أنفس وأثخنته الجراحة فرجع إليه عبيد الله بن زياد ابن ضبيان فقتله وجاء برأسه إلى عبد الملك فأمر له بألف دينار فلم يأخذها وقال: إنما قتلته بثأر أخي وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطته وقيل: إن الذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار وأخذ عبيد الله رأسه وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا بدار الجاثليق عند نهر رحبيل وكان ذلك إحدى وسبعين ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه وسار إلى الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوما وخطب الناس فوعد المحسن وطلب يحيى بن سعيد من جعفة وكانوا أخواله فأحضروه فأمنه وولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة ومحمد بن نمير على همدان ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري ولم يف لهم بأصبهان كما شرطوا عليه وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري ويحيى بن معتوق الهمداني قد لجئا إلى علي بن عبد الله بن عباس ولجأ هذيل بن زفر بن الحرث وعمر بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد فأمنهم عبد الملك وصنع عمر بن حريث لعبد الملك طعاما فأخبره بالخورنق وأذن للناس عامة فدخلوا وجاء عمر بن حريث فأجلسه معه على سريره وطعم الناس ثم طاف مع عمر بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه ومعالمه ولما بلغ عبد الله بن حازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن معمر؟ قيل: هو على فارس قال: فالمهلب قيل: في قتال الخوارج قال: فعباد بن الحسين؟ قيل على البصرة قال: وأنا بخراسان!
خديني فجريني جهارا وأنشدي ** بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره

ثم بعث عبد الملك برأس مصعب إلى الكوفة ثم إلى الشام فنصب بدمشق وأرادوا التطاوف به فمنعت من ذلك زوجة عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية فغسلته ودفنته وانتهى قتل مصعب إلى المهلب وهو يحارب الأزارقة فبايع الناس لعبد الملك بن مروان ولما جاء خبر مصعب لعبد الله بن الزبير خطب الناس فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ألا وإنه لم يذل الله من كان الحق معه وإن كان الناس عليه طرا وقد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل مصعب فالذي أفرحنا منه أن قتله شهادة وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يحدها حميمه عند المصيبة ثم عبد من عبيد الله وعون من أعواني ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق سلموه وباعوه بأقل الثمن فإن فو الله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص والله ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإسلام ولا نموت إلا طعنا بالرماح وتحت ظلال السيوف ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه فإن تقبل لا آخذها أخذ البطور وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولما بلغ الخبر إلى البصرة تنازع ولايتها حمدان بن أبان وعبد الله بن أبي بكرة واستعان حمدان بعبد الله ابن الأهتم عليها وكانت له منزلة عند بني أمية فلما تمهد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب ولى على البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد فاستخلف عليها عبيد الله بن أبي بكرة فقدم على حمدان وعزله حتى جاء خالد ثم عزل خالدا سنة ثلاث وسبعين وولى مكانه على البصرة أخاه بشرا وجمع له المصرين وسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمر بن حريث وولى عبد الملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستين فغزا الروم ومزقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار يدفعها إليه في كل يوم.